كنت ولاأزال من أشد المتحمسين للكاتب الراحل الكبير «توفيق الحكيم» وأراه بحق نموذجًا لفيلسوف الأدب أو أديب الفلسفة، ومازلت أظن أن ارتباط تاريخه بالمسرح المصرى هو نقطة مضيئة حول منتصف القرن العشرين، ومازلت أتذكر درجة انبهارى برائعته «أهل الكهف» حين صدرت، وغرامى بـ«عصفور من الشرق» حين نشرت، واهتمامى بـ«شهرزاد» ورأى عميد الأدب العربى «طه حسين» فيها، كما أن «يوميات نائب فى الأرياف» كانت ولا تزال توصيفًا دقيقًا لدور رجل النيابة فى القرية المصرية مع بدايات القرن العشرين، وتكمن أهمية «توفيق الحكيم» لدى فى النزعات الفلسفية الرائعة التى يسبر بها غور الإنسان ويصل إلى أعماقه، وينقب فيما بداخله عن مشاعر وأحاسيس مع روح السخرية الخفية والتأمل المستتر، ولقد اعتنقت فى مطلع شبابى كثيرًا من أفكاره ولعل أهمها «مفهوم التعادلية» فيما يحوزه الإنسان الفرد من هبات إلهية أو دنيوية، حيث تقف دائمًا عند رقم ثابت قد يتساوى فيه الجميع، ولكن التوزيع الداخلى بين البشر هو الفارق، فإذا كان لك مائة نقطة فى حياتك فقد يكون فيها ثلاثون فى المائة صحة، وعشرون فى المائة ثروة، وأربعون بالمائة ذرية وعشرة بالمائة رضا بما قسم الله لك، وقد تساءلت كثيرًا عن ذلك الفقير المريض البائس بلا ذرية مع معاناة شديدة؟! وكان الرد هو أن الله سبحانه وتعالى يزيد لدى ذلك النمط من البشر نسبة الرضا بحيث تعوض النقص فيما بخلت به الطبيعة على ذلك المخلوق التعيس، ولقد جمعتنى بهذا المفكر العظيم «توفيق الحكيم»- الذى كتب فى السيرة النبوية أيضًا، كما قدم رائعته «عودة الروح» بغض النظر عما كتبه بعد ذلك فى «عودة الوعى» لأن «الحكيم وحماره» يقبعان فى ذاكرتى نموذجًا لذلك النوع من الكوميديا التى لا تخلو من فلسفة، ولا تبرأ من لمحات خبيثة وكلمات منتقاة – جمعتنى به عدة أيام عندما كنت أعمل قنصلًا لمصر فى لندن وكان هو فى رحلة علاج لزوجته الراحلة وقد نهلت من تأملاته وآرائه أكثر مما كنت أطمع ثم تابعته بعد ذلك فى موكب حزين وراء نعش وحيده، وهو يواريه التراب، ودهشت لصلابته وقدرته على امتصاص الآلام واحتواء الأحزان، وآمنت أن الإنسان هو صانع إرادته، وهو المسيطر على مشاعره وانفعالاته لذلك فكرت دائمًا فيما يمكن أن نسميه صناعة السعادة المستمدة من الرضا بالواقع، والتعامل مع معطياته فى ظل كل الظروف ومختلف الأحوال، وليس يعنى ذلك أن يكون المرء متبلدًا يرضى بكل ما يواجهه ويقبل كل ما يصادفه ولكن التفسير الحقيقى هو ما قاله ابن أبى سفيان «معاوية» (ما من دار ملئت حبرة إلا وملئت عبرة) وقد كان لنا فيما جرى للحكام عبر التاريخ ما يؤكد ذلك بدءًا من «نكبة البرامكة» وصولًا إلى «مذبحة المماليك» مرورًا بأحداث مثيلة لدى أمم مختلفة وقوميات متعددة، ولقد كان أبى رحمه الله يقول لى دائمًا: (إذا زهزهت لك الدنيا يا بنى فاحذر منها وتخوف من الأيام القادمات) وأنا أكرر هذه المقولة دائمًا لأننى أعلم أن الحياة ليست على وتيرة واحدة، وأن الدنيا يوم لك ويوم عليك، وأنه لا ضمان لمستقبل الأيام كما قال عمر الخيام.
إن كل إنسان يستطيع أن يصنع أجواء السعادة فى كل مرحلة من مراحل حياته وفقًا للمعطيات المتاحة والظروف القائمة كما أنه قادر على أن يطوى أحزانه وأن يمتص آلامه ويلبس ثوب السعادة التى تنطلق من الرضا والإحساس بأن عليه أن يتحمل المسؤوليات كاملة وأن يجرع من الكأس التى جرع منها غيره بحيث لا يتصور نفسه حالة خاصة أو مخلوقًا متميزًا، فالله خلقنا جميعًا متساوين فى لحظة الميلاد، ولكننا مختلفون فى لحظة الرحيل وما بينهما يمضى بنا قارب الحياة بين الأمواج العالية والأعاصير العاتية، والعاقل هو من تذرع بالرضا ما دام لم يقصر فى عمله ولم يتجاوز على غيره ولم يغفل التزاماته نحو وطنه.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1363237