مصر بلد ضارب بجذوره في أعماق الزمان, عرف الدولة المركزية مع طفولة التاريخ فعندما قال هيرودوت إن مصر هبة النيل إنما كان يقرر حقيقة قائمة إذ إن تنظيم مياه النهر هو الذي صنع الإرادة المصرية المبكرة وأوجد مجتمعا زراعيا تحكمه ثقافة الاستقرار وروح الانصهار كما أن الحضارة المصرية في مراحلها المختلفة قد ارتبطت بالنهر الخالد وازدهرت علي ضفافه, أقول ذلك الآن بعد أن تابعنا في الشهور الأخيرة لغوا كثيرا حول توزيع مياه النيل ولغطا حول حصص دول المنبع والمجري والمصب, والأمر في ظني سياسي أكثر منه فني لأنه نتاج ظروف جديدة في المنطقة وليس ذلك غريبا لأن المياه هي الحياة ومن الطبيعي أن تثير الاهتمام الشديد وتستحوذ علي فكر أصحاب القرار في دول حوض النهر فإذا كان البترول محورا أساسيا في صراعات القرن العشرين فإن المياه هي محور أساسي في صراعات القرن الحادي والعشرين ولكي نناقش هذا الموضوع بروية وموضوعية فإننا نفضل أن نضعه في إطار الملاحظات الرئيسية التالية:ـ
أولا: إن إثارة هذا الموضوع في الظروف الراهنة ليس مجرد مصادفة ولكنه جزء من مخطط يستهدف مصر ويسعي للتطاول علي مكانتها وحقوقها لأنه لا توجد مشكلة حقيقية فدول حوض النهر مرتبطة بعدد من الاتفاقيات الثنائية والجماعية التي تجعل الأمر مفتعلا ولو أن هناك من يريد مراجعة تلك الاتفاقيات ومناقشة مسألة الحصص فإن ذلك ممكن بالطبع دون وضع الأمور في إطار سياسي تحركه قوي لا تخفي علي أحد كما أن الإمكانات الفنية والتوجهات السياسية لدول النهر ليست كافية لدفعها في الاتجاه الجديد دون توجيه خارجي وتخطيط مدروس.
ثانيا: إن الفاقد من مياه النهر ـ بالبخر أو في البحر أو بسوء الاستخدام أو ضعف الاستغلال ـ يفوق عشرات المرات كل المطالب الإضافية المحتملة من دول حوضه وكان يمكن لتلك الدول أن تطلب التعاون الإقليمي مع مصر وغيرها للبحث في تقليل ذلك الفاقد ومنع إهدار مئات الملايين من الأمتار المكعبة من مياه النيل كل عام ولكن الهدف من الحملة أكبر من ذلك وأعمق.
ثالثا: لقد طلبت إسرائيل ـ في حكم الرئيس الراحل السادات ـ مد مياه النيل عبر سيناء إليها وكان ذلك مطلبا عصيا لأن مياه النهر ملك لدوله ولن تقوم مصر بتغيير مساره ومحاربة الطبيعة لأسباب سياسية مهما تكن وأيامها وقف ديكتاتور إثيوبيا السابق مانجستو وكسر زجاجة مليئة بالدماء في خطاب عام أمام جماهير شعبه محذرا ومتوعدا مع أنه يدرك أن مصر أحرص علي مصالح شقيقاتها من دول النهر أكثر من حرصه عليها عشرات المرات.
رابعا: أشار القائد الليبي معمر القذافي في أكثر من مناسبة الي إمكانية توصيل رافد من نهر النيل الذي يمر بمصر مع النهر العظيم في ليبيا أو إمداد منطقة زراعة مشتركة بين البلدين بمياه النيل ولكن مصر لم تتمكن من ذلك أيضا ـ رغم حرصها علي إرضاء الجار الشقيق لما تربطها بليبيا من أواصر وصلات لا يجادل فيها أحد ـ ولكنه التزام مصر القانوني الدولي الذي يمنعها من العبث بمجري النهر الذي تشترك فيه مع عدد كبير من الشقيقات الإفريقيات.
خامسا: عندما أزمعت مصر المضي في بناء سدها العالي سارعت الي عقد اتفاقية مع السودان لتوزيع حصص المياه وقد وقعها عن مصر عام1959 السيد زكريا محيي الدين احتراما منا لارادة القطر التوءم وفي إطار روح وادي النيل كما أسهمت مصر فنيا في تقديم المشورة والمساعدة لأية محاولة تفيد الأشقاء ـ من الدول التي يمر بها النهر ـ وقد حظي السودان مثلا بمباركة مصر تجاه خزان الروصيرص أو قناة جونجلي التي لم يكتب لها الظهور حتي الآن.
سادسا: لم تبخل مصر علي دول حوض النيل بأي معونة فنية بل سعت دائما الي تعظيم استفادة هذه الدول من مياه النهر إذا طلبت إحداها ذلك كما حرصت دائما علي المحافظة علي حبل التواصل وتوثيق روابط النهر فالذين يشربون من نهر واحد يجب أن تكون بينهم قواسم مشتركة بل ودماء متقاربة, وقد عالجت مصر كل المشكلات المتعلقة بمياه النيل ـ تاريخيا وحاضرا ـ بالهدوء المطلوب والحكمة اللازمة.
سابعا: إن الدول الإفريقية هي الأعرف من غيرها بدور مصر التحريري والتنويري في القارة ولعلي أشهد هنا ـ من سابق خبرتي في العمل الدبلوماسي ـ أن الأفارقة وقفوا الي جانب مصر سياسيا عندما هاجمها الأشقاء العرب وطاردوا عضويتها في منظمة المؤتمر الإسلامي وحركة عدم الانحياز, فالعلاقة بين مصر وإفريقيا عميقة وقوية وغير قابلة للعبث والتشويه.
ثامنا: إن كل الهمسات السياسية في الآذان الإفريقية هي تعبير عن أطماع خارجية وليست لسواد عيون دول النهر بل هي جزء من التآمر المعتاد علي الغير والدول الأفريقية النيلية أول من يدرك ذلك فالذين يحاولون تحريكهم هم الطامعون في مياههم, الوافدون علي واديهم ممن يريدون تغيير مجري النهر ونزف خيراته التي هي هبة من الله لشعوبه.
تاسعا: إن التضخيم الإعلامي والحملة التي واكبت إثارة موضوع مياه نهر النيل توحي بالشك في صدق الدوافع وحسن النيات فقد بدت تلك الحملة وكأن الأمر مواجهة بين دول النهر ومصر أو بينهما وبين مصر والسودان معا علي الأكثر مع أن الأمر يتعلق بكل دول الحوض سواء من ينبع من مساقط الأمطار عليهم أو من يمر بأرضهم أو يصب في بحارهم, فالنهر مسئولية مشتركة وحق طبيعي لكل دولة.
عاشرا: إن الدول الإفريقية النيلية حسنة النية في ذاتها ولقد جمعتني الظروف اخيرا بوفد برلماني من إحدي دول حوض النهر المهمة والتي تسهم بقدر كبير في مياهه التي تهطل أمطارها فوقها, ووجدت منهم روحا طيبة وحديثا متزنا ورؤية عاقلة أما بعض التصريحات الهوجاء التي ترددت من بعض المسئولين في عدد من عواصم حوض النهر فهي عامة وغير محددة وتحدث عن مراجعة الإتفاقيات وحصص دول النهر دون برامج واضحة للاستفادة من الفاقد الضخم لمياهه.
.. هذه ملاحظات عشر قصدت منها وضع النقاط فوق الحروف ومحاولة كشف أبعاد الحملة الحالية حول مياه النيل فالمشكلة ـ إذا كانت هناك في الواقع مشكلة ـ يجب أن تدرس جماعيا من خلال هيئة مشتركة تشترك فيها كل دول النهر وتجري خلالها الدراسات والبحوث الفنية لتعظيم الاستفادة من مياه نهر النيل بدلا من الهمسات أو التصريحات خصوصا وأن لدي النهر من المياه ما يكفي برامج التنمية في كل دول حوضه كما أن حجم الفاقد يمكن أن يغطي الزيادة المطلوبة من كل الدول بما فيها مصر التي لم تعد حصتها تفي بمستقبل احتياجاتها ونحن يجب أن نتطلع الي قيام منظمة سياسية وفنية ثابتة لدول حوض النيل بدلا من الاجتماعات المتفرقة والجهود المبعثرة تكون مهمتها القيام بعملية مسح شامل لاحتياجات الدول النيلية وبحث خطط التنمية فيها ودراسة الإمكانات التي تؤهلها لتحقيق الاستغلال الأمثل للمتاح من مياه النهر كما أن العمل علي ربط دول النهر سياسيا وإيجاد آلية مباشرة لتبادل الآراء والتشاور عند اللزوم سوف تقطع الطريق علي من يوسوسون للبعض في محاولات للتحريض وايجاد المشكلات خصوصا وأن ما تتفق عليه دول حوض النهر يصبح ملزما لها وإطارا لحدود حركتها وليس هناك من يريد أن يتجاوز حقه أ
و يحرم شقيقه مما يستحقه فالمياه هبة السماء تهبط علي شعوب تحتاجها وتظل حقا لها.. كما أننا لا نري في اختلاق مشكلة حول مياه النيل أمرا بعيدا عن مجريات الأمور في الشرق الأوسط فلقد عانت دول الفرات من خلافات سابقة وحالية وإسرائيل تسعي نحو كل قطرة ماء تستحقها أو لا تستحقها وجزء كبير من أطماعها يرتبط بمشروعات المياه من أنهار المنطقة وهي التي تشكل خطرا دائما علي حقوق الغير وهل نسينا أن القمة العربية المهمة عام1964 بدعوة من الرئيس الراحل عبد الناصر كانت لأن إسرائيل اتجهت لتغيير مجري نهر الأردن, فالمياه عنصر فاعل وأساسي في مشكلة الشرق الوسط ولكن لا يجب تصدير جزء من تلك المشكلة الي القارة الإفريقية التي تحتاج الي تنمية حقيقية ومواجهة للتصحر ورفع لمستوي حياة شعوبها.
.. إن موضوع المياه سوف يكون بؤرة الصراع السياسي للعلاقات الدولية في كثير من أقاليم العالم وأحواض أنهاره الكبري خصوصا وأن تكاليف تحلية مياه البحار لا تزال باهظة ولا تقدر عليها كثير من الدول في عالمنا المعاصر ولكن لحسن الحظ فإن أساليب الري الحديثة ووسائل الزراعة المتقدمة تساعد علي ترشيد استخدام المياه وتحقيق أفضل استخدام لها كما أن حملات التوعية التي تقوم بها دول كثيرة تفيد في إقلال الفاقد والمياه المهدرة وترفع من مستوي وعي الشعوب بأهمية الاستفادة من كل قطرة مياه وقد سعت منظمات دولية أذكر منها الوكالة الدولية للطاقة الذرية الي مساعدة عدد من الدول في مشروعات تحلية مياه البحار باستخدام الطاقة النووية ولكن ذلك لا يبدو كافيا للوفاء باحتياجات البشرية في قرنها الحالي أو ما يليه من مستقبلها المجهول, إن الله الذي جعل من الماء كل شيء حي وربط دورة الكون من إنسان وحيوان ونبات بها هو الذي جعل منها أيضا وسيلة للتطهر في كل الديانات وطقسا في كل العبادات.. إن الدول لابد أن تستيقظ إذا احتلت أرضها أو مست مياهها فهما رمز وجودها ومصدر حياتها.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/5/11/WRIT1.HTM