أمضيت الأسبوعين الماضيين متنقلا بين العاصمة الفرنسية باريس منتهيا بالعاضمة الألمانية برلين مرورا بمدن فرانكفورت وهايدنبرج وشتوتجارت ودرسدن, فقد ذهبت الي فرنسا للمشاركة في ندوة عن العلاقات الأوروبية العربية نظمها معهد العالم العربي في باريس بمشاركة مع مؤسسة الفكر العربي حيث كنت المتحدث الأول في الجلسة الافتتاحية لندوة تتابعت أعمالها علي مدي يومين كاملين مزدحمين بالأسماء الفرنسية والعربية المرموقة من أمثال السيدين فيدرين وشليرت وكلاهما وزير خارجية فرنسي سابق ود. بطرس غالي أمين عام الأمم المتحدة السابق وغيرهم من الأسماء اللامعة من المصريين والفرنسيين والعرب المقيمين في باريس, أما زيارتي لألمانيا فقد كانت ضمن وفد برلماني برئاسة رئيس مجلس الشعب, والذي يهمني في تلك الزيارة ليس هو فقط النشاط البرلماني المكثف الذي قام به رئيس الوفد وأعضاؤه فليس هنا مجاله ولكن الذي يعنيني هو تلك المحاضرة القيمة التي ألقاها العالم المصري الأصل الأمريكي الجنسية والحائز علي جائزة نوبل أحمد زويل تحت عنوان المجتمع والعلم في القرن الحادي والعشرين, حيث استضافته جامعة هيومبولدHumboldt العريقة ليكون ضيفها في المحاضرة التذكارية السنوية وسط جمع حاشد من العلماء وأساتذة تلك الجامعة وطلابها.
وقد اتصل بي الدكتور زويل هاتفيا قبل وصوله الي ألمانيا ـ وهو زميل دراسة بمدينة دمنهور في نهاية الخمسينيات ـ ليزجي الي التهنئة لحصولي علي جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية هذا العام, ولم يكن يعلم أنني موجود في برلين فدعاني لمحاضرته التي ذهبت اليها برفقة سفير مصر في ألمانيا, ويهمني هنا ان أقدم للقارئ خلاصة هاتين المناسبتين الثقافيتين في كل من ندوة باريس ومحاضرة برلين واللتين اعتبرتهما تعويضا لغيابي عن المؤتمر الكبير الذي دعا إليه وزير الثقافة في مصر ونظمته أمانة المجلس الأعلي للثقافة بعد ان شاركت في لجنته التحضيرية, وبقدر ضيقي لحرماني من حضور ذلك المؤتمر المهم كان ارتياحي للطابع الثقافي والسياسي الذي اقترنت به رحلتي الأوروبية الأخيرة.
ندوة باريس
* تركزت تلك الندوة الباريسية في عاصمة النور حول العلاقات العربية الأوروبية واتسمت بقدر كبير من الصراحة والوضوح, ولقد تحدثت في الجلسة الافتتاحية عن الجذور التاريخية والروابط الثقافية التي لعب فيها البحر المتوسط ـ بحيرة الحضارات القديمة ـ دورا مؤثرا حتي إن مدينة الاسكندرية المصرية تجسد وحدها رمزا للتداخل القوي والتفاعل المستمر بين حضارات شمال المتوسط وجنوبه وتعكس درجة التقارب الثقافي بينها, بل ان ميلاد الدولة المصرية الحديثة قد ارتبط بحدث أوروبي كبير ـ بغض النظر عن تقويمنا له ـ وهو الحملة الفرنسية علي مصر التي لم تكن حملة عسكرية فقط ولكن كانت ذات أثر حضاري وتنويري وثقافي علي نحو أحدث صدمة كبري في الوجدان المصري فأيقظه من سبات العصر المملوكي بل ودفعه نحو الاستقلال النسبي عن الحكم العثماني بظهور محمد علي مؤسس مصر الحديثة ولقد أجبت في أثناء الندوة علي عدد من الأسئلة من بينها ماطرحه السفير الفرنسي المصري النشأة إيريك لولو حول الخيار العربي بين أوروبا وأمريكا حيث يشعر الأوروبيون أحيانا ان العرب ألقوا بكل أوراقهم في الحوزة الأمريكية وقللوا دائما من جدوي الدور الأوروبي, بينما الأمر في ظني غير ذلك فالأوروبيون أنفسهم هم الذين يكررون دائما علي الصعيد الرسمي ـ حكوميا وبرلمانيا ـ أنهم لايستطيعون ان يكونوا بديلا للدور الأمريكي كما أنهم يدركون ايضا ان اسرائيل لاترحب بهم طرفا في التسوية السلمية وان كان دورهم الأخير في الرباعية يعطي بعض الأمل لدور أوروبي أكثر فاعلية, وعندما تحدثت السفيرة الفلسطينية لدي فرنسا السيدة ليلي شهيد عن المخاوف من محاولة بعض الدوائر الغربية أو الأمريكية تحديدا احداث تصنيف ديني لأطراف الصراع في الشرق الأوسط علقت مؤكدا وجهة نظرها بأن المصالح وحدها هي التي تحكم توجهات القوي الكبري فالولايات المتحدة الأمريكية ضربت ـ تحت مظلة الأطلنطي ـ الدولة الصربية التي تنتمي للكنيسة المسيحية الأرثوذكسية دفاعا عن أغلبية مسلمة في اقليم كوسوفا فالعبرة بالاجابة عن السؤال المقلق دائما وهو أين تري القوي الكبري مصالحها؟ ثم جري حديث مستفيض بعد ذلك عن الجاليات الاسلامية في دول الاتحاد الأوروبي والمصاعب التي تكتنف عملية الاندماج الاجتماعي والانصهار السكاني في إطار الثقافة الغربية الأوروبية بدءا من الأتراك في المانيا الي الباكستانيين والهنود المسلمين في بريطانيا الي عرب شمال افريقيا في فرنسا وقد تحدث الدكتور بطرس غالي في الجلسة الختامية عن احتمالات التغيير في السياسة الأمريكية والأمل المحفوف بالحذر في الخروج من المأزق الحالي في الشرق الأوسط, ولقد اتسمت الندوة في مجملها بدرجة عالية من الصراحة والوضوح حتي إن استاذة مرموقة من كلية الاقتصاد في جامعة القاهرة وجهت انتقادا مباشرا للجانب الأوروبي الذي يريد ان يقصر الحوار مع دول جنوب المتوسط علي قضية الهجرة والاستيعاب السكاني وحدهما وكأنه يحاول ان يحل مشكلاته الأوروبية دون ان يعطي ذات الأهمية لقضايا الأمن والسلام في الشرق الأوسط.
محاضرة برلين
إنني أظن مخلصا ان مصر لم تستفد من عالم الفيزيا والكيمياء معا أحمد زويل بالصورة الواجبة والمتوقعة, وبغض النظر عن تقويمنا للمشكلات التي اعترضته في وطنه أو الانتقادات التي وجهت اليه ايضا إلا ان زويل يبقي في ضميري منصة عالية يمكن ان يطل منها الوطن المصري علي العلم والتكنولوجيا المعاصرين ولقد شهدت درجة الحفاوة التي استقبلته بها الجامعة الألمانية في برلين وكنت قلقا ان تكون المحاضرة علمية بحتة تحرمني متعة المتابعة والحوار, ولكن المفاجأة هي ان محاضرة الدكتور زويل كانت مزيجا رائعا من الفكر والفلسفة وتوليفة فريدة من العلوم الاجتماعية والتطبيقية معا, فلقد تطرق الي تاريخ العلم وتطور الأفكار وبدا مزهوا بوطنه الأصلي وهو يشير الي دور المصريين القدماء بل والعرب بعدهم من حيث اسهامهم في حضارة العصر حتي استأثر ابن الهيثم بقدر من التكريم في محاضرة العالم المصري, ولعلي أوجز في هذا المقال اهم ملامح المحاضرة القيمة التي ذكرتني بما حدثني به سفيرنا في الهند في اثناء زيارة اخيرة لنيودلهي عن روعة محاضرة اخري القاها الدكتور زويل وسط الفين من علماء الهند البارزين وباحثيها المرموقين, الأمر الذي أغراني بإن احاور د. زويل في اثناء محاضرته الألمانية مؤكدا امام الحضور علي ان البحث العلمي هو انعكاس لارادة سياسية بالدرجة الاولي كما أن عملية التقدم هي نتاج لعملية اخري تسبقها وهي تعبئة الموارد البشرية والطبيعية وفقا لرؤية مستقبلية واضحة, ويبقي الآن ان اشير الي بعض الأفكار الرئيسية التي جاءت في ثنايا محاضرة العالم المصري:
(1) إن الارادة السياسية هي بحق المفتاح الحقيقي لاجتياز بوابة العصر فالكل مازال يذكر صيحة الرئيس الأمريكي الراحل جون كيندي التاريخية عندما قال فلنذهب الي القمر إيذانا ببدء عصر الفضاء أمام الولايات المتحدة الأمريكية, كما ان تشكيل القاعدة العلمية تمثل البداية الطبيعية للتعبير عن تلك الارادة إذ انه لاعلم بدون علماء, ولا بحث بدون كوادرراغبة وقادرة في ذات الوقت.
(2) إن مجالات البحث العلمي القادمة أوسع بكثير مما كنا نظن فهي لاتقف عند حدود الطاقة المستمدة من البترول وطاقة الرياح والطاقة الشمسية ولكنها تتجاوز ذلك الي التعامل السريع مع المشكلات القادمة امام البشر إذ تمثل ندرة المياه أزمة القرن الحادي والعشرين مثلما كان البترول هو أزمة القرن الذي سبقه, كما ركز المحاضر العالم علي أهمية ابحاث الكيمياء الحيوية واسهامها المنتظر في توفير الغذاء للأجيال القادمة كما اشار ايضا الي التحدي الذي يمثله تدني مستوي المعيشة لكثير من الشعوب خصوصا في افريقيا وما يجلبه ذلك من أمراض جديدة وكوارث مكررة.
(3) أشار د. زويل الي مسئولية الدول المتقدمة تجاه الدول الأقل اهتماما بالبحث العلمي بسبب نقص الكوادر العلمية الناجم عن سوء النظم التعليمية أو فقر الموارد وندرة الامكانات, فأشار الي ضرورة تصدير الأفكار الجديدة والاهتمام بالتدريب المهني بدلا من تصدير السلع وتقديم المعونات منطلقا من المثل الصيني الشهير بدلا من ان تعطيني سمكة, علمني الصيد
.. إن محاضرة برلين العلمية لم تكن بعيدة عن ندوة باريس السياسية فالفارق بينهما ان المحاضرة كانت ارتيادا للمجهول واستشرافا للمستقبل إلا انها كانت تمس بين حين وآخر بعض المقومات السياسية وفي مقدمتها عنصر الارادة, كما ان ندوة باريس هي الأخري قد تطرقت الي موضوعات الدعم الاقتصادي والتعاون الاقليمي وأهمية رفع مستوي المعيشة والارتقاء بحياة شعوب المنطقة بغير استثناء لأنه قد ثبت للجميع ان الفقر يمثل بؤرة ملتهبة تنطلق منها مشكلات التطرف والعنف والارهاب, وهو يصنع ايضا البيئة الحاضنة لكل اسباب الجهل والتخلف والعدوان.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/7/15/WRIT1.HTM