توقعناه صيفًا ساخنًا منذ بدايته ولكن أحداث أفغانستان رفعت درجة حرارته بأكثر مما كان متوقعًا، لأنها ليست مجرد سقوط نظام حكم أو استيلاء فصيلٍ سياسى على السلطة، فالأمر أكبر من ذلك، لأن حركة طالبان ليست مجرد حزب سياسى أو حتى جماعة عسكرية، ولكنها أخطر وأعمق، خصوصًا إذا وضعناها فى إطارها الزمنى، فالقرار الأمريكى بالانسحاب بعد عشرين عامًا من التواجد وعشرات الآلاف من الضحايا ومليارات الدولارات التى جرى إنفاقها وترسانة السلاح التى مازال جزء منها فى صناديقه تركته القوات المنسحبة عمدًا كعربون صداقة جديدة مع حركة طالبان التى ترى ذاتها اليوم وكأنها فى أوج انتصارها. إن هذا التوقيت الذى أرادت به الولايات المتحدة الأمريكية تكريس المعنى الجديد لقيادة العالم دون نشر قواتها أو استخدام أسلحتها اكتفاءً برصيد مؤسف يبدأ من كوريا ولا ينتهى بأفغانستان مرورًا بفيتنام والعراق، وهاهو الرئيس الأمريكى بعد شهور قليلة من بداية ولايته يتخذ هذا القرار الخطير غير المحسوب دوليًا أو آسيويًا أو أمريكيًا والذى تبدو تداعياته فى الأفق القريب سلبية على استقرار المنطقة، بل وأيضًا على السلم والأمن الدوليين، فالخطوة الأمريكية الأخيرة تبدو وكأنها هدية من واشنطن إلى حركة طالبان ومن يتشابهون معها ويعتنقون فكرها الذى جربناه وعرفناه من قبل وخاصة الشعب الأفغانى الذى كانت تفر جموع منه إلى المطار لركوب أى طائرة وكأنها قوارب نجاة حتى تساقط العشرات من الجو فى مأساةٍ إنسانية مروعة، إن الأمر يستدعى منّا تأمل الموقف برمته وطرح بعض الملاحظات حول ذلك الذى جرى ويجرى فى مفاجأة من العيار الثقيل لكل خبراء الدبلوماسية وأساتذة الاستراتيجية فى أنحاء العالم، ويمكن هنا أن نقول:
أولًا: إن أفغانستان موقع استراتيجى حاكم يحوز جبال وسط آسيا وتبدو طريقًا إلى باكستان والهند والصين وروسيا، فضلاً عن جوار متاخم للجمهورية الإسلامية الإيرانية، فهى بذلك ذات موقع جغرافى متفرد، جعلها دائمًا مطمعًا للبريطانيين والروس ثم الأمريكان، والأفغانى مقاتل شرس شديد المراس حتى قيل ذلك المثل الشائع عندهم (إياك ولدغة الثعبان أو ثأر الأفغان)، وبرغم أن حركة طالبان تحاول الظهور حاليًا بشكل مختلف عما هو معروف عنها إلا أن ذلك لا يبدو مقنعًا، فتاريخها طويل وسجلها حافل، والتظاهر بالاعتدال والوسطية حاليًا والقول بأن الحركة قد وعت الدرس وأصبحت فصيلًا سياسيًا عصريًا، لا يمكن ابتلاعه بسهولة، لأننا نعلم أن تيارات التشدد الدينى لا تتغير أبدًا، بل تبدو دائمًا غير قادرة على التغيير أو التطور.
ثانيًا: لقد أصبحنا أمام نظام سياسى متشدد، يعتمد على المذهب السنى فى جوار مباشر مع نظام سياسى متشدد دينيًا أيضًا، ولكن اعتمادًا على المذهب الشيعى، وبذلك تعززت قوى الأصولية الدينية فى وسط آسيا مع تماس بدول الجوار التى تحاول حاليًا أن ترقب الأمر عن كثب، بل وأن تخطب ود الحركة المنتصرة كما فعلت روسيا من خلال كلمات بوتين فى تعليقه على تلك الأحداث الأخيرة.
ثالثًا: لقد تعودنا من حركة طالبان وأمثالها ردود فعل انتقامية عندما يحوزون السلطة وتؤول إليهم مقاليد الأمور، فيبدأون سلسلة من التصفيات الجسدية والإعدامات الفورية، وذلك يفسر حرص الحركة فى هذه الأيام على منع فرار الأفغان من غير مؤيديهم أو الذين كانوا متعاونين مع الوجود الأمريكى فى السنوات الماضية، وليس من شكٍ فى أن روح الانتقام ليست من الإسلام فى شىء، لقد عفا النبى العظيم محمد يوم فتح مكة عن كل خصومه، ولكن الحركات الإسلامية المتشددة لا تدرك روح الإسلام، بل تحاول استخدامه دومًا فى ترويع الآمنين وقتل الأبرياء.
إننا نريد أن يتذكر الجميع أن الذين صنعوا مستودع البارود ووضعوه على قمة جبال أفغانستان، إنما ارتكبوا جرمًا كبيرًا فى حق الإنسانية والقارة الآسيوية والشعوب الإسلامية، لأن انعكاس ما جرى قد يكون له أصداؤه فى تحفيز بعض الحركات المتطرفة، بعدما استقرت الأمور نسبيًا وبدأ مهرجان الفجر الصادق نحو الفهم الصحيح للإسلام الحنيف، وسوف تتكاثر التنظيمات الإرهابية برعاية الجماعات السياسية المتطرفة لتعود بعض المناطق إلى المربع الأول من جديد ويدفع المسلمون فاتورة جديدة مرتين: الأولى من انتقاد العالم لهم، والثانية من الضرر المباشر الذى يصيبهم، فقد نشطت على التو تنظيمات متطرفة تحاول استثمار ما جرى والاستفادة من الموقف الدولى الجديد، وسوف نظل نرقب الأحداث حتى نتأكد أن أفغانستان لن تعود بؤرةً للصراع الدائم والصدام المستمر والأطماع التى لا تتوقف.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2408129