كتبت منذ عدة سنوات مقالاً بعنوان (الجيل المسروق.. والدور المسحور) وقد اكتسب ذلك المقال شهرة واسعة لأننى قمت فيه بتوثيق حال جيلٍ بكامله، وربما جيلين أيضاً جثم على صدرهما نوع من أبدية المواقع وديمومة المناصب وتواصل الأدوار على نحوٍ حجب آلاف الكفاءات وأطاح بمئاتٍ من المتميزين فى مجالات مختلفة وقارنت فى ذلك المقال بين ذلك الجيل - أو الأجيال - المسروق وبين «الدور المسحور» فى البنايات الكبيرة والعمارات الضخمة، حيث يوجد دور يطلق عليه غالباً «الميزانين» لا يقف عنده المصعد، بل قد يكون الوصول إليه بالسلم فقط لأنه يحتوى أحشاء المبنى من أنابيب مياه وخراطيم تكييف وأجهزة مختصة بالإنارة والغاز وغيرها، وشبهت «الجيل المسروق» بأنه يبدو وكأنه يسكن «الطابق المسحور»، حيث لا يقف المصعد عنده ويظل ساكنوه بكفاءاتهم وخبراتهم وقدراتهم محشورين فى ذلك الطابق، والسادة الآخرون يتحركون بالمصعد نحو الأدوار العليا فى سرعة صاروخية أحياناً، لا لخبراتٍ جمعوها ولا قدراتٍ حازوها ولا كفاءاتٍ تمتعوا بها، ولكنها قضية المحظيين من أهل الثقة على حساب الملايين من عامة الناس الذين لا يتطلعون إلى ما تم حجبه ولا يفكرون فيما تم تأبيده، فبعض رؤساء تحرير الصحف ومجالس إدارتها بقوا فى مواقعهم أكثر من ربع قرن، ووزراء يجلسون على المقعد لأكثر من عشرين عاماً، وكل مسؤول يأتى يفكر فى تحقير سلفه والإطاحة بإنجازاته، ثم ينظر خلفه فيقوم بتسفيه من يتصور أنه أحق بالموقع منه أو الأجدر به ذات يوم! ولقد كتبت فى ذلك الوقت - منذ أكثر من عشر سنوات - أن هناك عملية مستمرة للإطاحة بكل متفوق، والعصف بكل متميز، ثم الشكوى بعد ذلك من عدم وجود من يمكن الاختيار بينهم أو الانتقاء منهم!!
لقد كتبنا ذلك بكل وضوح دون مواربة منذ سنوات لكى نشير إلى غياب تكافؤ الفرص وتفضيل أهل الحظوة على أهل الخبرة، ولقد اتصل بى غداة نشر ذلك المقال الدكتور «عصام شرف» - بتواضعه المعروف وبساطته المعتادة - لكى يقول لى عبارة لن أنساها أبدًا، لقد قال: (نعم إن المصعد لا يتوقف عند الطابق الذى يسكنه جيلك، ولكن ذلك الجيل وغيره من الأجيال المهمشة هم قوة السحب العلوية أو ماكينة المصعد التى تسمح له بالحركة إلى أعلى)، إنه تعبير هندسى فنى من أستاذ جامعى كان وزيراً وقتها قبل أن تطيح به قوى ترفض أهل العلم والمعرفة وتأتى بديلاً عنهم بأهل الحظوة والثقة، إننى أقول ذلك الآن حتى يعرف الشباب الثائر أننا لم نكن صامتين كل الوقت ولم نكن جزءاً من قطيع يمضى وراء الراعى بلا وعى، وأضيف إلى ذلك أن جيلى وأجيالاً أخرى جرى تسكينهم دائماً فى مواقع هامشية ولم يسمح لهم بدخول الدائرة المتميزة للسلطة أو المشاركة فى إدارة حكم البلاد وكل من لمع من هؤلاء المهمشين أو انتشر اسمه أو ذاع صيته، إنما تحقق له ذلك لأنه اخترق طبقات السُحب الداكنة واختار الولاء للشارع دون أن يقطع «شعرة معاوية» مع الحكم، وقد كان الجهد كبيراً والعمل شاقاً والدور صعباً والمصعد لا يتوقف والظلامية تسود ويأخذ من لا يستحق ممن يستحق، ونحن هنا لا نردد لغة الثوار أو نتمسح فيما يقولون به أو يفكرون فيه، ولكننا نحيلهم جميعاً إلى قراءة الملفات كاملة ومعرفة الطيب من الخبيث والتجاوز عن بعض الكبوات لأن مَن كانوا ينتقدون ولو بشكلٍ خفى كانوا كمَن يمشى على الأشواك، خصوصاً إذا كان النظام السابق يتصور أنهم محسوبون على المعارضة، بينما الأخيرة تراهم محسوبين عليه!
.. هذه خواطر طافت بداخلى جعلتنى أعيد النظر فى قيمة المناصب مهما علت وأزهد فى المواقع مهما ارتفعت، مؤمنًا بأن قيمة الفرد تأتى من ذاته وقناعاته وأفكاره وارتباطه بالعلم ورغبته فى المعرفة، عندئذٍ لا يعنيه أن يقف المصعد أو لا يقف، فالسلم متاح حتى ولو كان الصعود شاقاً والتحرك مضنياً، كما أن التيار الكهربائى قابل للانقطاع فى أى لحظة!.. إنها روح ثورة وتوابع زلزال وحتى ذلك المصعد الذى كان يمرق وسط الجدران المظلمة قد بدأ هو الآخر ينشر الضوء حوله وقد يفكر ذات يوم فى ساكنى الطابق المسحور!
جريدة المصري اليوم
12 مايو 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/207229