شدنى إليه كتابه الصغير «رسائل الحب والحزن والثورة» الذى أصدره فى سبعينيات القرن الماضى متضمناً رسائله إلى زوجته الراحلة التى عقرها كلب ضال فى «مطار القاهرة» فراحت ضحية الإهمال والعبث والفوضى، ولقد تضمنت عبارات الكتاب إيقاعاً إنسانياً عالياً جعلنى أقترب منه أكثر خصوصاً أننا كنا نسكن فى نفس المنطقة وهى «السبع عمارات» بحى «مصر الجديدة»، وكثيراً ما كنت ألتقيه فى شارع «السوق» بتلك المنطقة القريبة من مساكن «ألماظة» فتعرفت أكثر على فكره وأعجبت بعقله وبهرنى ذلك النمط الرفيع من العلماء الذين اختاروا الانتماء الفكرى والنضال السياسى طريقاً صعباً قد يضر الفرد صاحب الرسالة ولكنه يصب فى النهاية فى مصلحة وطنه، هؤلاء هم نمط من أصحاب الحس الوطنى العالى الذين يضحون بالمصلحة الشخصية من أجل الوطن. وإذا كان الدكتور «عبد العظيم أنيس» رحمه الله- عالماً فى الرياضيات والإحصاء- فإنه عرف حياة السجون السياسية والنضال الوطنى من سنوات عمره الباكر، وقد كان أخوه المؤرخ الراحل الدكتور «محمد أنيس» هو صاحب القراءة اليسارية لتاريخ «مصر» الحديث فاجتمع الشقيقان على تبنى شعارات الوطنية المصرية ومبادئ الاشتراكية الدولية ودفعا من عمريهما ثمناً كبيراً لمواقفهما المستقلة وأفكارهما المضيئة ووطنيتهما الصادقة، ولقد كان الدكتور «عبد العظيم أنيس» رحمه الله ـ يتحدث معى فى سنواته الأخيرة حول ما طرأ على المنطقة والسياستين الداخلية والخارجية لـ «مصر» وتأثير ذلك على مستقبل الشرق الأوسط وأجياله القادمة وكان كعادته دائما هادئاً وديعاً متأملاً متواضعاً، وأظن أنه خال مباشر للدكتور طارق كامل «وزير الاتصالات» ولشقيقه الدكتور «حسام كامل» «رئيس جامعة القاهرة». وقد كان من أقربائه أيضاً صديق عزيز على رحل عن دنيانا منذ سنوات هو المهندس اللامع «نبيل الحريري» فتجمعت لدى من هذه الصلات القريبة شبكة واسعة من المعلومات حول ذلك العالم الكبير الذى تواكب رحيله مع رحيل رفيق عمره المفكر الراحل «محمود أمين العالم»
وتبدو الإشكالية الحقيقية فى فهم شخصية الدكتور «عبد العظيم أنيس» عندما ندرك أن المشتغلين بالعلوم التطبيقية تكون انتماءاتهم الفكرية شديدة الصلابة لأنهم ينطلقون من قاعدة البحث العلمى وأدواته المحكمة وأساليبه الرشيدة وأنا أشعر تجاههم بضعف خاص لأنهم خرجوا عن المألوف حيث من الطبيعى أن يكون أصحاب الدراسات النظرية والمهتمون بالفكر السياسى والتطور الاقتصادى أكثر تعرضاً للعمل السياسى قبل أولئك الذين يملكون مقاعدهم فى المعامل والمختبرات ويصولون ويجولون بين المعادلات الرياضية والحسابات الرقمية بتعقيداتها وصعوباتها، وعلى الرغم من أن «د.محمد أنيس» محلل التاريخ الفذ قد رحل قبل شقيقه بسنوات طويلة إلا أنه ظل حياً فى ضمير أمته وتلاميذه كما بقى «د.عبدالعظيم أنيس» عالماً وطنياً لا يهوى الأضواء ولا يتطلع إلى المناصب حتى انسحب من الحياة فى هدوء منذ سنوات قليلة وهو فى ظنى نموذج لأولئك الذين عانوا كثيراً فى عصر «عبد الناصر» على المستويات الشخصية ولكنهم آمنوا به على الأصعدة الفكرية وظلوا على ولائهم لأفكاره وسياساته حتى سنوات رحيلهم أو انصرافهم عن القضايا الوطنية وقد حكمهم دائماً إيمان عميق بقضايا الحرية والممارسة الديمقراطية والعدل الاجتماعى.
ما زلت حتى الآن أعيش مع سطور ذلك العالم الفذ فى كتابه الذى أهداه لزوجته التى عصفت بها يد القدر وهى فى ريعان الشباب ثم بقى ذلك العالم الكبير يعيش على ذكرى تلك الزوجة الراحلة وعلى ذكرى حقبة سياسية ذهبت ولن تعود!
جريدة المصري اليوم
4 مارس 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/198186