عندما ينظر المرء وراءه يلحظ بسهولة الارتباط بين المراحل العمرية والتصرفات الشخصية، فإذا كان الإنسان ابن ظروفه وحتى إذا كان الوجود سابقًا على الماهية - كما يطرح الوجوديون - فإن الأمر الذي لا شك فيه هو أن عنصر الزمن يلعب دورًا حاكمًا في تحديد تصرفات البشر وانتماءاتهم الفكرية وفهمهم للحاضر ورؤيتهم للمستقبل، فتفكيرنا في سن العشرين يختلف بالضرورة عنه في سن الأربعين ويبدو وهمًا ضبابيًا لمن يتأمله فوق الستين، والإنسان محكوم في حياته بتجاربه الشخصية وخبراته الذاتية وهو ابن البيئة التي نشأ فيها وتربى على تقاليدها وتشبع بالقيم التي تؤمن بها ولكن للحياة تصاريف أخرى تتمثل في المنعطفات الطارئة والأحداث العابرة بل والمصادفات المفاجئة على نحو يغير مجريات الأمور ويدفع الإنسان في طريق غير الذي كان يتوقعه وذلك لا يقلل من عنصر الإرادة الفردية وقدرتها على تغيير الطريق وتحويل المسار، وكل منا يذكر في حياته ذلك المنعطف الجانبي الذي شده في اتجاه مختلف ودفعه في طريق لم يكن مرسومًا أمامه، وتعقيبًا على هذه التأملات فإنني أطرح التصورات التالية:
أولًا: نستطيع أن نميز في مطلع العمر بين نمطين من الشخصية، الأولى هي الشخصية الرأسية التي تؤمن بالتخصص وتعتنق مفهوم الالتزام بطريق واحد، وربما كان هذا النمط من الشخصية يتواكب مع التطور الطبيعي للحياة المعاصرة التي ترى أن لكل فرد مجاله المحكوم بإطار تخصصه وعليه أن يجود فيه إلى حد التفوق، بينما هناك مدرسة ثانية - وأزعم أنني منتسب لها - وهي تلك التي تؤمن بالمعرفة الأفقية التي تضرب في كل اتجاه بسهم وتجمع شتات المعرفة من كل جانب فتجعل من الشخص الواحد أكاديميًا وسياسيًا وثقافيًا وإعلاميًا بل ودبلوماسيًا أيضًا، هذا هو الطريق الوعر والمسلك الصعب الذي يرتاده البعض وكأنهم يقتربون من نموذج الشخصية الموسوعية من أمثال ابن سينا والفارابي وغيرهما مع الفارق الكبير بين هذه النماذج المبهرة وبين ما يدور في حياتنا الراهنة.
ثانيًا: إن هناك متغير مستقل يحكم كل المتغيرات التابعة في حياتنا وأعني به الصحة العامة للأفراد، إذ أن الأمراض تحجر غالبًا على مسيرة الشخص وتفرض ذاتها على ما تبقى من عمره، فالصحة بحق هي تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، ولذلك فإن الثروة والمعرفة والسلطة والنفوذ لا تجدي شيئًا كلها أمام الحالة الصحية التي تحكم في النهاية مسيرة الإنسان وقدرته على التفكير والعمل.
ثالثًا: يختزن العاقل في سنوات شبابه رصيده الأكبر من المعارف والعلوم والأفكار والرؤى وذلك من خلال القراءة الهادفة والتركيز الدائم على ما يدور حوله في هذا الكون الحافل بالاضطرابات والصراعات بحيث يتكون لديه مخزون ضخم من الآراء والأفكار والتجارب والخبرات لتصبح كلها هي المَعِين الذي لا ينضب والمصدر المستمر للإلهام في الحاضر والمستقبل.
رابعًا: ليس من شك في أن الإطار الثقافي الذي يحكم سلوك الفرد ويحدد مستواه أمام سواه هو عنصر حاكم في الارتباط بين نشاط الفرد وشريحته العمرية، ويستطيع المرء تحديد مكانة الشخص حتى ولو رآه لأول مرة من نمط سلوكه وطريقة تفكيره وثقافته العامة بل أحيانًا من نبرة صوته واختيار كلماته، بل إنني أستطيع أحيانًا التنبؤ بالمستوى الثقافي للمتحدث عبر الهاتف من خلال لهجته ونبرات صوته وأسلوب حديثه، وأنا أظن أن عبارة إن الإنسان ابن بيئته لابد أن تكتمل بقولنا وهو أيضًا انعكاس لثقافته.
خامسًا: لقد لاحظت أن المشكلة الحقيقية لدى كثير ممن عرفتهم هو الفارق بين آرائهم في أنفسهم ورأي الآخرين فيهم، فالبعض يتوهم أنه شخصية خاصة متفردة لا نظير لها وأن ما عداه من البشر هم دونه ذكاءً وفهمًا ورؤية، وقد لا يكون واقع الأمر كذلك على الإطلاق لذلك فإن الفارق بين رأي الإنسان عن ذاته ورأي الآخرين فيه يمثل مساحة القلق والاضطراب في الشخصية المعاصرة عندما لا تتحقق أهدافها كاملة بحيث يتصور صاحبها أنه شهيد وأن الظلم قد حاق به ولم ينل في حياته ما يستحق، وقد يكون كل ذلك وهم وخيال لا وجود لهما.
هذه بعض التأملات في طواف سريع للعلاقة بين العمر والسلوك، بين الخبرة والتصرف، بين التجربة وفهم الحاضر ورؤية المستقبل تطلعًا للوصول إلى نموذج الإنسان السوي الذي يؤمن عن يقين بأنه فرد واحد وسط مليارات البشر، وأنه لا فضل له على غيره إلا بالتربية والثقافة وتنمية الوعي، ويهمني أن أضيف هنا أن عنصر الزمن حاكم للغاية في التأثير على البشر، فرائحة الستينيات تختلف عن رائحة الثمانينيات وتختلف عن رائحة زماننا فلكل عصر رموزه وشخوصه، ويبقى الأمر في النهاية محكومًا بقدرة الإنسان الفرد على التكيف مع الأوضاع المختلفة والقدرة على وضع ذاته في المكان المناسب دون ادعاء أو تهويل أو تهوين أيضًا، فالأعمار تحكمها قاعدة إلهية ولكن يتبقى علينا دائمًا أن ندرك أن استثمار الوقت والإفادة من الزمن هي أمور دعت إليها كل الأديان حتى يترك الإنسان بعد رحيله بصمات تشير إليه وتتحدث عنه ويفزع الناس يوم مماته تكريمًا له وتقديرًا لذكراه، وقد قال أحد العلماء في العصر العباسي مباهيًا زميله: العبرة بيننا عن من هو أهم وأحب وأشهر لدى الناس لا تكون في الحياة ولكن بيني وبينك الجنائز، فالناس لا تحزن إلا على من يستحق ولا تذرف الدمع إلا من أجل من تفقد.. سوف تبقى قضية العلاقة بين الإنسان وعمره قضية تستحق التأمل وتستدعي كل أسباب الفهم الدقيق والتعمق الزائد.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 10 نوفمبر 2020.