للفيلسوف السياسى (جون لوك) نظرية شهيرة حول ما يسمى (المحتل الأول) أى أول من وجد على الأرض فى منطقة معينة وكأنما كان (جون لوك) يرى منذ عدة قرون المفهوم السائد فى مصر حول ما يسمى (وضع اليد) الذى يمارسه المصريون الأعراب والبدو خصوصًا فى الساحل الشمالى وبعض المناطق الصحراوية المتاخمة للمدن والقريبة من العمران، وأتأمل أحيانًا من هو الذى امتلك الأرض قبل غيره، لا بد أن منطق القوة للسيطرة على بعض البقاع هو الذى حكم الأمر برمته وحتى عندما كان محمد على يوزع (الشفالك والأبعديات) فإنه كان يمنحها لذوى النفوذ فى مناطقهم ومن أسدوا خدمات جليلة للدائرة (السنية) ولذلك فإننى أظن أن قضية الملكية قد بدأت بمفهوم القدرة البدنية وتمكن البعض من إقصاء البعض الآخر إلى أن دخلنا فى مراحل متقدمة من تنظيم الدولة بحيث أصبحت هناك قواعد وقوانين ولوائح تنظم ملكية الأرض أو حيازتها بمعنى التخصيص أو حق الانتفاع بها وفقًا لمدة زمنية معينة، وأنا شخصيًا أشعر بارتياح عندما أجدهم فى المملكة المتحدة يقررون أن كل شيء ملك للتاج وأن ملكية المواطنين ـــ بريطانيين وأجانب ـــ محكومة بمدد زمنية وفقًا لعقود الملكية حتى تلك التى تكون ملكية مفتوحة Free hold فإنها تخضع فى النهاية لسيطرة التاج الذى هو رمز الدولة ومكانتها العالية، ولعلى أهدف من هذه المقدمة أن أبسط أمام القارئ بعض الحقائق:
أولًا: إن الارض هى مصدر الثروة ومنبع المعادن الصلبة والسائلة ومخزن المياه الجوفية الذى لا ينضب وهى أم البشرية، وعلى الرغم من أن نسبة مساحة اليابسة إلى البحار والمحيطات تبدو ضئيلة إلا أن سكانها هم الذين يغزون تلك المحيطات والبحار لأنها هى الأخرى مستودع للثروات القابعة تحت المياه وفيها، وإذا كان الإنسان لا يستطيع إلا أن يعيش على الأرض فإنه يستطيع أن يجد غذاءه من البحار والمحيطات أيضًا، إنه عالم عجيب يخضع لدرجة عالية من التوازن فحكمة الله فى الكون هى التى جعلت فلسفة الوجود تجعل كل شيء ميسرا لما خلق له بدءًا من الإنسان أرقى المخلوقات وصولًا إلى الخلية الوحيدة أصغر الكائنات.
ثانيًا: إن (آدم سميث) فى كتابه (ثروة الأمم) يعطى الأرض منزلة خاصة بين وسائل الإنتاج لذلك فإن الدول تحارب من أجل قطعة أرض ولو صغيرة، ومصر أمضت أربع سنوات تتفاوض من أجل منطقة (طابا) وهى مساحة محدودة للغاية ولكن يبقى المعنى وهو ضرورة احترام سيادة الدولة على إقليمها وقدرتها فى الدفاع عنها حربًا وسلمًا.
ثالثًا: إن الصراع على الأرض فى مصر يبدو صعبًا للغاية، فالمساحة المأهولة من الخريطة المصرية لا تتجاوز كثيرًا ستة فى المائة، بينما السكان يتزايدون فى انفجار بمتوالية هندسية تدعو إلى القلق لذلك فإن الأرض فى مصر هى مصدر الثروة الأول، كما أن الملكية العقارية هى أفضل وعاء لحفظ قيمة النقود وهى مصدر الثراء المركب والأرباح الطائلة، والعجيب فى الأمر أن المصريين يتزاحمون فى المدن وعشوائيات حولها وينزحون من الريف إلى الحضر بمعدلات عالية حتى أصبحت المدن قرى كبيرة وأضحت القرى مدنًا مشوهة! فالمصرى لا يرتاد الصحراء ولا يحب المناطق المهجورة ولكنه يسعى إلى الوجود فى بقاع مزدحمة حتى ولو ضاق به الرزق، وقد آن الأوان لكى يخرج من هذا الإطار ويضرب فى أرض بلاده سعيًا نحو حياة أفضل ولو بعد حين، فالصحارى الواسعة والأراضى الملاصقة لشريط الوادى الضيق وغيرها من البقاع غير المأهولة تحتاج إلى إعادة توزيع (ديموغرافي) بحيث ينطلق الشباب ليبنى ويعمر ويصنع مصر الحديثة بكل المعاني، لذلك فإننى أرى أن إنشاء العاصمة الجديدة يجب أن يكون بداية زحف عمرانى مخطط نحو امتدادات العمران المصرى القديم.
رابعًا: كلما أتاحت لى الظروف - خصوصًا فى شهور الصيف - أن أعبر طريق (مصر ذ الإسكندرية) إلى (العلمين) وأرى المساحات الهائلة لملايين الأفدنة من الأرض المنبسطة التى كانت مزرعة القمح للرومان تصدمنى مأساة الألغام المزروعة فى أحشاء تلك الأرض الطيبة وأطالب بحل مصرى دولى عاجل لتلك المشكلة التى صدرها لنا أطراف الحرب العالمية الثانية، ورغم جهود الحكومة المصرية ممثلة فى قواتها المسلحة لتطهير أجزاء منها إلا أن الأمر لازال يحتاج إلى دعم دولى تتحمل فيه الدول التى زرعتها مسئوليتها الكاملة لأن الأمر يحتاج إلى نفقات باهظة، ولقد تذكرت هذه المنطقة مؤخرًا عندما سمعت (البابا فرانسيس) يقول فى خطبته أمام الرئيس السيسى وكبار المدعوين إن مصر التى أطعمت العالم قمحًا فى سنوات المجاعة مطالبة اليوم بأن تقدم للعالم قمح السلام فى مواجهة الإرهاب!
خامسًا: سوف يتحدد مستقبل الوطن المصرى فى ضوء قدرتنا على الاستفادة من المساحات الشاسعة وغير المأهولة مع النظر فى إعادة توزيع العمران بما يخدم الاستثمار والسياحة، ولعلنا نتذكر فى هذا السياق مأساة الساحل الشمالى الذى جرى زرع المصايف الأسمنتية على امتداده دون خطة مدروسة أو رؤية شاملة أو نظرة متكاملة، وكان من الممكن أن يكون هو (الريفيرا المصرية) التى تضاهى نظيرتيها الفرنسية والإيطالية ولكن لأننا بلد العشوائيات فقد استقر فى أعماقنا التفكير العشوائى أيضًا!
إننى أكتب هذه السطور وقلبى يكاد ينزف حزنًا على الفرص الضائعة ثم يكاد يقفز تطلعًا للفرص القادمة، فالأرض لأصحابها وليست للمحتل الأول وحده، فالشعوب هى مالكة المصير وصانعة الحياة ومشيدة المستقبل.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47636
تاريخ النشر: 9 مايو 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/593289.aspx