لا يكون الحوار الوطنى شاملاً إلا إذا كان متصفًا بالإعداد الجيد له والانفتاح الكامل على مختلف الأفكار التى تشتبك معه فى أرضية وطنية واحدة، فذلك هو الضمان الوحيد لتحقيق حدٍ أدنى من النجاح للحوار البنّاء الذى يسمح بتزاوج الأفكار وتضارب الآراء وتقديم مبادراتٍ جديدة لحل المشكلات القائمة، كما أننى أظن أن هناك ضرورة للدخول بورقة عمل متفق عليها بحيث يكون الحوار محكومًا بأجندة واضحة وجدولٍ زمنى محدد لأن من أكبر مشكلاتنا دائمًا انعدام الروابط والضوابط فى مناقشاتنا الفكرية والسياسية، ولا بأس من أن تكون الورقة النهائية المتضمنة لمشروع الحوار وطبيعة المناقشات هى خلاصة ما تم تقديمه من الأحزاب السياسية والقوى الفكرية الدافعة لقضايا الحوار حتى ولو كان ذلك فى اتجاهاتٍ متعارضة، فالمدخل الحقيقى لأى حوار هو أن تكون هناك أجندة واضحة لتسيير أعماله وتحقيق المنتظر منه، وفى ظنى أن الأمر يتوقف على عددٍ من العوامل أهمها ما يلي:
أولاً: أهمية دراسة المشهد القائم والقيام بعملية مسح شامل لكل المشكلات التى طرأت على الساحة فى السنوات الأخيرة وارتبطت بالجهود الضخمة للإصلاح والتنمية وتكريس الحد الأدنى من الدخل الشهرى للفقراء ومحدودى الدخل على امتداد خريطة الوطن، بما فى ذلك تطبيق المشروع الضخم الخاص بحياة كريمة، فضلاً عن توافر الغذاء والعلاج والاهتمام المتزايد بالقرى المصرية.
ثانيًا: إننى أتمنى أن تكون هناك جلسات متخصصة يعنى بعضها بالصناعة المصرية ومستقبلها وإعطائها أولوية على غيرها، فالعمران مطلوب وهو بمثابة (الهارد وير) ولكن التفوق التقنى والتقدم الصناعى هو (السوفت وير) الذى يجسد عملية التنمية ويفتح الأبواب أمام رخاءٍ طال انتظاره عبر العقود الأخيرة، وأتمنى أيضًا أن تكون هناك جلسات خاصة بالزراعة وشئون الفلاح المصرى حارس التاريخ وديدبان العصر، ولقد كنت أجلس فى سرادق عزاء منذ أيام وجلس بجانبى فلاح مصرى مثقف يحمل شهادةً جامعية ويعيش فى قريته ويزرع أرضه، قال لى يومها إن أحوال الفلاح المصرى صعبة، ورغم أن الدولة تسعى لرفع أسعار المحاصيل وتحسين وضعه فإنه مازال يعانى، وأضاف فى إصرار أن العلاقة بين الدولة والفلاح لو وصلت إلى نقطة التراضى فقد لا نحتاج إلى استيراد جزءٍ كبيرٍ من وارداتنا من القمح أو الحبوب الغذائية عمومًا، أما الجلسات المخصصة للسياحة ومشكلاتها فحدث عنها ولا حرج، إن مصر كان يجب أن تكون هى بلد الخمسين مليون سائح فى ظروفنا الحالية ولكن قدرتنا على التسويق وتحفيز القطاع الخاص للشراكة الجادة فى التنمية السياحية لم يبلغ مداه الذى كان منتظرًا!
ثالثًا: دعنا نعترف أن حشدًا كبيرًا من العلماء والخبراء قابعون حاليًا فى جامعاتهم المركزية والإقليمية، فضلاً عن جيوشِ من ذوى الخبرة فى تخصصات مختلفة، ولكن يبدو أننا حتى الآن لم نستطع اجتذاب عشرات الألوف من النوعية الجادة التى تعتبر عصب التنمية وعماد التمكين الحقيقى للدولة العصرية التى يسعى الحوار الوطنى للتحضير لها والتمهيد لإعلانها فى جمهوريةٍ جديدة يلتف المصريون والمصريات حولها بروح المبادرة البناءة والإصرار الوطنى العنيد على اقتحام المشكلات وتداول المسائل المعقدة فى رحابة صدر وعمق تفكير مع نقل التجارب الناجحة من الدول المختلفة.
رابعًا: إن هناك قضايا جوهرية يجب أن نتوقف عن الالتفاف حولها وأن نسعى إلى اقتحامها ومن ذلك العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة، وهى بالمناسبة ليست علاقة مقصورة على جماعة الإخوان المسلمين وأخطائها وخطاياها، ولكنها تتجاوز ذلك إلى ضرورة التفاهم مع التيار السلفى لكى يلتزم حدودًا وطنية محددة وألا تصبح بعض عناصره سيوفًا مسلطة على رقاب العباد، بنصوصٍ قانونية هزيلة وتفاسير دينية متهافتة جرى تطويعها لخدمة أهدافٍ دنيوية حيث تبدو بعيدةً كل البعد عن روح الإيمان ومقاصد الشريعة.
خامسًا: إننى أدق هنا ناقوس الخطر خصوصًا فى أوساط الشباب داعيًا إلى أن يتخذوا أعلى درجات الحذر والحيطة من كل ما يجرى تصديره فكريًا إلينا تحت مسميات مختلفة فى مقدمتها شعارات حقوق الإنسان التى يحاولون تأويلها وفقًا لأفكارهم وتصديرها للمجتمع العربى واضعين السم فى العسل بالترويج للمثلية وغيرها من الظواهر غير المقبولة لدى عموم الناس خصوصًا فى الدول الإسلامية والعربية.
هذه سطور أردنا بها أن ندلى بدلو فى موضوع شديد الخطورة عظيم الأهمية وهو فتح الحوار الوطنى الحر فى وجود السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولندرك دائمًا أن الفجر يلوح فى الأفق رغم المصاعب والتحديات، وإن إصرار المصريين قد صنع عبر تاريخهم الطويل معجزاتٍ وحقق إنجازاتٍ بل ومضى نحو انتصارات سوف تظل مشهودة عبر الزمان، إننى أتمنى أن يكون الحوار الوطنى القادم حوارًا مخلصًا وصادقًا وليس مجرد اجتماعاتٍ وخطب ولقاءات ليس بينها ضابط ولا رابط، إن الحوار الوطنى القادم فرصة ذهبية للحديث فى كل ماهو مسكوت عنه فالشفافية الكاملة هى الطريق الصحيح نحو المستقبل الأفضل. كما أن المواجهة الحاسمة واقتحام المشكلات والتصدى للمعوقات هو السبيل الأوحد لتحقيق الأمانى، والإيمان بالله والوطن مع أملٍ لا يتوقف وجهدٍ مستمر لا يتراجع.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/863817.aspx